فصل: مسألة أمر الرجل بإقباله على ما يعنيه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة أحداث السنة التاسعة من الهجرة:

وفي السنة التاسعة كانت غزوة تبوك، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما انصرف من عمرته بعد فتح مكة وغزوة حنين وحصار الطائف أقام بالمدينة ذا الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وربيع الآخر وجمادى الأولى وجمادى الآخرة، وخرج في رجب من سنة تسع بالمسلمين إلى غزو الروم، وهي آخر غزاة غزاها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنفسه، وكان خروجه إلى تلك الغزوة في حر شديد حين طاب أول التمر في عام جدب، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يكاد يخرج غازيا إلى وجه إلا ورى بغيره، إلا غزوه تبوك فإنه بينها للناس لبعد المسافة ونفقه المال والمشقة وقوة العدو المقصود إليه، فتأخر الجد بن قيس من بني سلمة، وكان متهما بالنفاق، فاستأذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في البقاء وهو غني قوي فأذن له وأعرض عنه، فنزلت فيه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49].
وفي هذه الغزاة أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البكاءون، وهم سبعة فاستحملوه فلم يكن عنده ما يحملهم عليه، فـ {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] فسموا البكائين.
وأنفق فيها ناس من المسلمين، فأنفق عثمان رَحِمَهُ اللَّهُ نفقة عظيمة جهز بها جماعة من المعسرين. روي أنه حمل في هذه الغزاة على تسعمائة بعير ومائة فرس، وجهزهم حتى لم يفقدوا عقالا ولا شكالا. وروي أنه أنفق فيها ألف دينار، وخرج عبد الله بن أبي ابن سلول بعسكره فضربه على باب المدينة أيضا، فكان عسكره فيما زعموا ليس بأقل العسكرين، وهو يظهر الغزاة مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما نهض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تخلف فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب، وكانوا نيفا وثمانين رجلا خلفهم سوء نياتهم ونفاقهم.
وتخلف في هذه الغزاة من صالح المسلمين ثلاثة رجال، وهم كعب بن مالك الشاعر من بني سلمة، ومرارة بن الربيع من بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية الواقفي، وتفقدهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد يوم أو يومين، فقيل له: تخلفوا، فعجب من ذلك للذي يعرف من إيمانهم وفضلهم وعز ذلك عليه، وفيهم نزلت: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة: 118] الآية، وحديثهم مشهور معروف.
ونهض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخطر على حجر ثمود، فأمر أصحابه ألا يتوضئوا من بئر ثمود، ولا يعجنوا بمائها خبزا، وأمر بما عجن بمائها أن يطرح للإبل، وأمرهم أن يستعملوا في جميع ما يحتاجون إليه ماء بئر الناقة وأن لا يدخلوا بيوت ثمود المعذبين إلا باكين أن يصيبهم مثل ما أصابهم، وقام صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ثمود بضع عشرة ليلة، ولم يتجاوزها ثم انصرف.
وكانت في هذه الغزاة آيات بينات وعلامات للنبوءة مشهورات.
منها أنه كان في طريقه ماء قليل فنهى أن يسبق إليه أحد فسبق إليه رجلان، فاستنفذا ما فيه، فسبهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال لهما ما شاء الله أن يقول، ثم أمرهم فجمعوا من بقية ذلك الماء، غرفوا منه بأيديهم قليلا قليلا حتى اجتمع في شيء، فغسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه وجهه ويديه، ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير جاشت به، كفى الجيش كله، وأخبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ذلك الموضع سيملأ جنانا.
وبنى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين تبوك والمدينة مساجد نحو ستة عشر مسجدا أولها مسجد بناه بتبوك وآخرها مسجد بذي خشب وفي هذه السنة كان إسلام ثقيف ولما انصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تبوك وكان انصرافه في رمضان رأت ثقيف أنهم لا طاقة لهم بما هم فيه من خلاف جميع العرب، فوفدوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسلا منهم بإسلامهم، فخرجوا حتى قدموا المدينة، فكان أول من رآهم بقناة المغيرة بن شعبة، وكان يرعى بها ركاب أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نوبته، فترك الركاب عندهم ونهض مسرعا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليبشره بقدوم ثقيف للإسلام، فلقي أبا بكر الصديق فسأله عن شأنه، فأخبره، فأقسم عليه أن يؤثره بتبشير رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، فأجابه المغيرة إلى ذلك، فذهب أبو بكر بالبشارة إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، ورجع المغيرة إلى قوم ثقيف، فجاء معهم إلى النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، وأعلمهم كيف يحيونه إذا قدموا عليه، فلم يفعلوا وحيوه بتحية الجاهلية، فضرب لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبة في ناحية المسجد، وكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يختلف بينهم وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الذي كتب لهم الكتاب، فسألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يكتب لهم كتابهم أن يترك لهم الطاغية وهي اللات لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى عليهم من ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسألوه ألا يهدموا أوثانهم بأيديهم فأجابهم إلى ذلك، وأعفاهم من أن يكسروها بأيديهم، وقالوا: إنما أردنا أن نسلم بتركها من سفهائها ونسائنا، وخفنا أن نروع قومنا بهدمها حتى ندخلهم الإسلام، وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة، فقال لهم: لا خير في دين لا صلاة فيه، فكتب لهم كتابهم وأمر عليهم عثمان بن أبي العاص، وأمره أن يعلمهم القرآن وشرائع الإسلام، وأن يصلي بهم وأن يعذرهم بأضعفهم ولا يطول عليهم، ولا يتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا وبعث معهم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة لهدم الأوثان الطاغية وغيرها، فهدمها وأخذ مالها وحليها، وخرج نساء ثقيف حسرى يبكين اللات وينحن عليها.
وفي هذه السنة كانت حجة أبي بكر الصديق، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما انصرف من تبوك أراد الحج، ثم قال: إنه يحضر البيت غدا مشركون يطوفون بالبيت عراة، فلا أحب الحج حتى لا يكون ذلك، فأرسل أبا بكر ثم أردفه عليا لينبذ إلى كل ذي عهد عهده ويعهد إليهم ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان... إلى سائر ما أمره أن ينادي به في كل موطن من مواطن الحج، فأقام الحج في ذلك العام سنة تسع أبو بكر، ثم حج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قابل حجته التي لم يحج من المدينة غيرها، فوقعت حجة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العام المقبل في ذي الحجة، فقال: «إن الزمان قد استدار» الحديث، فثبت الحج في ذي الحجة إلى يوم القيامة، فلما كان يوم النحر في حجة أبي بكر قام عَلِيٌّ فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «أيها الناس، إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذن فيهم ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة إلا أحد كان له عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عهد إلى مدة»، ثم قدما على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يحج بعد العام مشرك ولا طاف به عريان.
وفي هذه السنة وسنة عشر بعده، قدمت وفود العرب على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للدخول في الإسلام، وذلك أنه لما فتح الله على رسوله عَلَيْهِ السَّلَامُ مكة وأظهره يوم حنين، وانصرف من تبوك، وأسلمت ثقيف أقبلت إليه وفود العرب من كل وجه يدخلون في دين الله أفواجا، وكل من قدم عليه قدم راغبا في الإسلام إلا عامر بن الطفيل وأربد بن قيس في وفد بني عامر وإلا مسيلمة في وفد بني حنيفة.
فإن عامر بن الطفيل وأربد بن قيس فإنهما قدما عليه في وفد عامر بن صعصعة، وقد أضمرا الفتك برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والغدر به، فكان عامر بن الطفيل قد قال لأربد: إني سأشغله بالكلام عنك، فإذا فعلت فاعله بالسيف، ثم جعل يسأله سؤال الأحمق ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول له: «لا أجيبك في شيء مما سألت عنه حتى تؤمن بالله ورسوله.» فأنزل الله على أربد البهتة والرعب فلم يرفع يدا، فلما يئس منه عامر، قال: يا محمد والله لأملأنها عليك رجالا، فلما وليا قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهم اكفني عامر بن الطفيل وأربد بن قيس»، فلما كان في بعض الطريق بعث الله على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه فقتله الله في بيت امرأة من بني سلول، فجعل يقول: غدة البكر أو غدة البعير وموتا في بيت سلولية، ووصل أربد إلى بلده، فأنزل الله عليه صاعقة، وكان على جمل قد ركبه في حاجة له فأحرقه الله هو وجمله بالصاعقة.
وأما مسيلمة فقدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وفد بني حنيفة، فروي أنه دخل مع قومه على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم يسترونه بالثياب، فكلمه فأجابه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنك لو سألتني هذا العسيف- لعسيف كان معه من سعف النخل- ما أعطيتكه»، وأسلم قومه ثم انصرفوا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما انتهوا إلى اليمامة ارتد عدو الله مسيلمة وادعى النبوة، وقال: قد أشركني في أمره، واتبعه أكثر قومه، وجعل يسجع لهم أسجاعا يضاهي بها القرآن، وأحل لهم الخمر والزنا، وأسقط عنهم الصلاة، فمن سجعه قوله: لقد أنعم الله على الحبلى أخرج منها نسمة تسعى من بين صفا ووحشى، ومثل هذا من سجعه لعنه الله، واتبعه بنو حنيفة إلا ثمامة بن أثال الحنفي، فإنه بقي على الإيمان بالله ورسوله ولم يرتد مع قومه.

.مسألة أحداث السنة العاشرة من الهجرة:

وفي السنة العاشرة كانت حجة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما دخل عليه ذو القعدة منها تجهز للحج، وأمر الناس بالجهاز، وخرج لخمس بقين من ذي القعدة، واستعمل على المدينة أبا دجانة الشاعري، وقيل: سباع بن عرفطة الغفاري، ولم يحج صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا ثلاث حجات، اثنتان بمكة وواحدة بعد فرض الحج عليه من المدينة.
ومن أحسن حديث روي في صفة حجه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأتمه حديث جابر بن عبد الله، خرجه أصحاب الصحيح، مسلم وغيره، وقطعه مالك في موطئه، فذكر في كل باب منه ما احتاج إليه، وكذا فعل البخاري.
وحديث جابر بن عبد الله رواية جعفر بن محمد عن أبيه، قال: «دخلنا على جابر بن عبد الله وهو يومئذ قد ذهب بصره، فسأل عن القوم حتى انتهى إلي، فقلت: أنا محمد بن علي بن حسين، وأنا يومئذ غلام شاب، فرحب بي وَسَهَّلَ ودعا لي، فقالوا: جئناك نسألك، فقال لي: سل عما شئت يا ابن أخي، فقلت: أخبرني عن حج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال بيده وعقد تسعا، ثم قال: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حاج فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف تصنع؟ قال: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي، فصلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المسجد، ثم ركب القصواء، حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى ما مد بصري بين يديه من راكب وماش وعن يمينه وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أظهرنا ينزل عليه القرآن، وهو يعرف تأويله، فما عمل من شيء عملنا مثله، فأهل بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. وَأَهَّلَ الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد عليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئا منه، ولزم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلبيته» الحديث بطوله على ما قد ذكرناه في الحج من المقدمات.

.مسألة أحداث السنة الحادية عشرة من الهجرة:

وفي السنة الحادية عشرة توفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضحى يوم الإثنين من ربيع الأول في الوقت الذي دخل فيه المدينة في هجرته إليها من مكة، فكانت وفاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على رأس عشر سنين من الهجرة، ودفن يوم الثلاثاء، وقيل: ليلة الأربعاء، ولم يحضر غسله وتكفينه إلا أهل بيته، غسله علي بن أبي طالب، وكان الفضل بن العباس يصب عليه الماء، والعباس يعينهم، وحضرهم شقران مولاه.
ولم يصدق عمر بموته وأنه مات وأنكر على من قال ذلك، وخرج إلى المسجد فخطب الناس، وقال في خطبته: إن المنافقين يقولون إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مات، والله ما مات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكنه ذهب إلى ربه، كما ذهب موسى، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم، والله ليرجعن كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مات.
وأتى أبو بكر بيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكشف له عن وجهه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقبله وأيقن بموته، ثم خرج فوجد عمر يقول تلك المقالة، فقال له: اجلس، فأبى عمر، ثم قال له: اجلس، فأبى، فتنحى عنه وقام خطيبا، فانصرف الناس إليه وتركوا عمر، قال أبو بكر: أما بعد فمن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144] الآية، قال عمر: فلما سمعتها من أبي بكر عرفت ما وقعت فيه، وكأنني لم أسمعها قبل، ثم اجتمع المهاجرون والأنصار في سقيفة بني ساعدة فبايعوا أبا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثم بايعوه بيعة أخرى من الغد على ملأ منهم ورضا، فكشف الله به الكربة من أهل الردة، وقام به الدين، والحمد لله رب العالمين.
ولما أنزل الله على النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] علم أنه قد نعيت إليه نفسه، وسأل عُمَرٌ ابْنَ عباسٍ عن هذه السورة، فقال: يقول له: اعلم أنك ستموت عند ذلك، فقال له عمر: لله درك يا ابن عباس، إعجابا بقوله، وقد كان سأل عنها غيره من كبار الصحابة فلم يقولوا ذلك.
ولما دنت وفاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذه وجعه في بيت ميمونة، فخرج إلى أهل أحد، فصلى عليهم صلاته على الميت، وكان أول ما يشكو في علته الصداع، فيقول: وارأساه، ثم لما اشتد وجعه استأذن أزواجه أن يمرض في بيت عائشة، فأذن له في ذلك، ومرض فيه إلى أن مات فيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان يقول لعائشة في مرضه ذلك: «يا عائشة ما زلت أجد ألم الطعام الذي أكلته بخيبر، وما زالت تلك الأكلة تعادني، فهذا أوان قطعت أبهري».
وأوصاهم في مرضه بثلاث: أن يجيزوا الوفد بنحو ما كان يجيزهم به، وألا يتركوا في جزيرة العرب دينين، «أخرجوا منها المشركين، والله الله في الصلاة وما ملكت أيمانكم، فأحسنوا إليهم»، وقال: «لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، وقال لهم: «هلموا أكتب لكم كتابا لا تضلون بعده أبدا، فاختلفوا وتنازعوا واختصموا، فقال: قوموا عني، فإنه لا ينبغي عندي تنازع»، وكان عمر القائل حينئذ: قد غلب عليه وجعه، وربما صح، وعندكم القرآن، فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين أن يكتب ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم. وكان يقول في صحته: «ما يموت نبي حتى يخير ويرى مقعده»، روته عائشة، قالت: «فلما اشتد مرضه جعل يقول: مع الرفيق الأعلى، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا»، فعرفت أنه ذاهب، ولما عجز عن الخروج إلى المسجد قال: «مروا أبا بكر فليصل للناس»، وقال في مرضه: «أهريقوا عَلَيَّ من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، لعلي أعهد إلى الناس»، فأجلس في مخضب لحفظه، ثم صب عليه من تلك القرب حتى طفق يشير إليهم بيده أن حسبكم، ثم خرج إلى الناس وأبو بكر يصلي للناس، فتأخر أبو بكر وتقدم النبي عليه السلام فصلى وصلى أبو بكر بصلاة النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، والناس بصلاة أبي بكر، وقد اختلف من كان الإمام للناس منهما في تلك الصلاة على ما قد مضى بيانه والقول فيه في رسم سن من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة، ولما اشتد مرضه به جعل يقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إن للموت لسكرات، الرفيق الأعلى»، فلم يزل يقولها حتى مات صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشرف وكرم.

.مسألة تفسير وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا:

في تفسير: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} [القصص: 10] وسئل مالك: عن تفسير: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} [القصص: 10]، قال: ذهاب العقل في رأيي، يقول الله تبارك وتعالى: {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 10]، والإنسان إذا أهمه الشيء لم يكد يذكر معه شيئا غيره، حتى إن المريض ليمرض فما يكاد يذكر غير مرضه الذي هو فيه..مسألة الاستنجاء بالأحجار:

في مرور العمل بترك الاستنجاء بالأحجار قال مالك: وبلغني أن ابن شهاب قال لابن هرمز، وكان يكلمه، فقال له ابن شهاب: نشدتك الله، أما علمت أن الناس كانوا يتوضئون فيما مضى ولا يكونون يستنجون بالماء؟ فسكت ابن هرمز فلم يجبه بشيء، فقيل لمالك: لم؟ قال: لم يحب أن يقول له نعم، وهو أمر قد ترك فتركه ولم يجبه.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أن من اكتفي في استنجائه بالأحجار دون الماء فصلى أن صلاته تامة ولا إعادة عليه في وقت ولا غيره؛
لما جاء من أن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ سئل عن الاستطابة، فقال: «أولا يجد أحدكم ثلاثة أحجار؟»، إلا أن الماء أطهر وأطيب، ومن قدر على الجمع بين الأحجار والماء فهو أولى وأحسن، وقد كان أهل قباء يفعلون ذلك، فنزلت فيهم: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108]. قال ابن حبيب: لا نبيح اليوم الاستنجاء إلا لمن عدم الماء، لأنه أمر قد ترك وجرى العمل بخلافه على ما قاله ابن هرمز، وبالله التوفيق.

.مسألة أمر الرجل بإقباله على ما يعنيه:

في أمر الرجل بإقباله على ما يعنيه قال: وسمعت مالكا، يقول: دخل رجل على عبد الله بن عمر وهو يخصف نعله، فقال له: يا أبا عبد الرحمن، لو ألقيت هذا النعل وأخذت أخرى جديدة، فقال له: نعلي جاءت بك هاهنا؟ أقبل على حاجتك.
قال محمد بن رشد: إنما قال له ابن عمر ذلك لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»، وهذا ما لا يعنيه، وبالله التوفيق.

.مسألة تخفيف الله عن عباده فيما افترضه عليهم:

في تخفيف الله عن عباده فيما افترضه عليهم قال مالك: بلغني أن عمر بن عبد العزيز قال: لو أن الله فرض على خلقه بقدر عظمته ما أطاقها سماء ولا أرض ولا جبال، ولكن الله خفف عنهم.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين يشهد به القرآن ويعتقده كل مؤمن بالله تعالى، إذ لا يفي بحق عظمة الله أحد، قال الله عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، وقال عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وبالله التوفيق.

.مسألة فضل الله عز وجل على من زهد في الدنيا:

في فضل الله عز وجل على من زهد في الدنيا قال: وسمعت مالكا يقول: سمعت أنه يقال: ما زهد عبد واتقى الله إلا أنطقه الله بالحكمة.
قال محمد بن رشد: هذا، والله أعلم لأن من اتقى الله وزهد في الدنيا صح نظره في الأمور بتقوى الله تعالى فيها، فوفق للحق وأنطق بالحكمة، فضل من الله تعالى فيها عليه في ذلك، من ذلك ما جاء عن عمر بن الخطاب من أنه كان يرى الرأي بقلبه ويقول الشيء بلسانه فيوافق الحق فيه كموافقته ما نزل في القرآن في الخمر وفي أسرى بدر وفي الحجاب في مقام إبراهيم، على ما جاء في ذلك كله، وبالله التوفيق.

.مسألة إشفاق عمرو بن العاص مما دخل فيه من حرب معاوية لعلي:

في إشفاق عمرو بن العاص مما دخل فيه من حرب معاوية لعلي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: وسمعت مالكا يقول: كان عمرو بن العاص يقاتل علي بن أبي طالب، فإذا انتصف النهار ضرب سرادقا يستريح فيه ويفرق الناس يستريحون، فيحمل الناس قتلاهم في الأكسية فيقول عمرو: من هذا؟ فيقال له: فلان، ويقول: من هذا؟ فيقال له: فلان، فقال عمرو: كم من أحسن في الله قد قتله فلان وفلان، يريد عليا ومعاوية، وما يريان أنهما يديان من دمه بشيء ثم يبكي.
قال محمد بن رشد: قول عمرو بن العاص وما يريان أنهما يديان من دمه بشيء، هو كما حكي عنهما من أن كل واحد منهما اعتقد باجتهاده أنه مصيب عند الله تعالى في فعله، فلا حرج عليه في ذلك إذ كان فرضه هو الذي أداه اجتهاده إليه من ذلك، فللمصيب منهما- وهو عندنا عَلِيٌّ- أجران، وللمخطئ منهما- وهو عندنا معاوية- أجر واحد، وكذلك حكم من اتبع كل واحد منهما وقاتل معه، هذا الذي يجب على كل مسلم أن يعتقده فيما شجر بينهم؛ لأن الله تعالى قد أثنى عليهم في كتابه، وعلى لسان رسوله، فقال عز من قائل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] أي: خيارا عدولا، وقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] الآية، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم».
وبكاء عمرو بن العاص والله أعلم عند المرور بالقتلى عليه إنما هو مخافة أن يكون قد قصر في خاصة نفسه فيما يلزمه من بلوغ غاية الاجتهاد الذي أداه إلى أن معاوية الذي قاتل معه على الحق، وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة احتقار شأن المتكبرين من ملوك الدنيا ووعظهم:

في احتقار شأن المتكبرين من ملوك الدنيا ووعظهم وسمعت مالكا يحدث عن عمه أبي سهيل بن مالك، أنه كان يقول: إن ملكا كان في بني إسرائيل، وأنه ركب يوما في مدينته، فركب في زي عظيم، فمر برجل قاعد على عمله لا يلتفت إليه، فلما رأى الملك ذلك قال له: ما لك لا تنظر إلي كما ينظر الناس إلي؟ فقال له الرجل: إني قد رأيت ملكا مثلك، وكان على هذه القرية، فمات هو ومسكين في يوم واحد، فدفنا فكان قبراهما جميعا في موضع واحد، فكنت أتعاهدهما فأعرفهما بقبريهما، ثم نسفت الريح قبريهما وكشفت عنهما فاختلط عظم هذا بعظم هذا، فما أعرف أحدهما من صاحبه، فلذلك لم يعجبني ما أنت فيه فأقبلت على عملي.
قال محمد بن رشد: هذا وشبهه مما ينبغي أن يوعظ به من كان فيه زهو بنفسه وإعجاب بحاله، وبالله التوفيق.

.مسألة تواضع العلماء وجلوسهم في الأسواق:

في تواضع العلماء وجلوسهم في الأسواق وعند أصحاب العباء قال: وحدثني مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال: ما أخذت أحاديث كثيرة من أحاديث سعيد بن المسيب إلا عند أصحاب العباء في السوق، وما أخذت من سالم بن عبد الله أحاديث كثيرة إلا في ظل المنارة التي في السوق، كان يقعد في ظلها، وسعيد عند أصحاب العباء، قال مالك: كان ذلك من شأن الناس يخرجون إلى السوق ويقعدون فيه.
قال محمد بن رشد: في هذا تواضع العلماء برضاهم بالدون من المجلس ومجالسة المساكين ودخول الأسواق، ومن تواضع لله رفعه الله. ومن الحجة في جواز دخول الأسواق وأنه لا عيب في ذلك- قول الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20] الآية ردا لقول المشركين: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7]، وبالله التوفيق.

.مسألة الجلوس في المساجد والاشتغال فيها بالعمل اليسير:

في الجلوس في المساجد وجواز الاشتغال فيها بالعمل اليسير قال مالك: كان سعيد بن المسيب يحدث، وربما أخذ ثياب بعض من يقعد إليه فيذرعه وهو في المسجد، فقلت له: ثياب الناس؟ قال: نعم، وهو في المسجد، قال مالك: قال جعفر بن محمد، وكان عمر بن الخطاب يقعد في المسجد ويقعد إليه رجال يحدثهم عن الأجناد ويحدثونه بالأحاديث، والقاسم بن محمد، فما يقولون له كيف تقول؟ ولا كيف يقول؟ كما يصنع أهل هذا الزمان.
قال محمد بن رشد: ما كان سعيد بن المسيب ربما فعله من ذرع ثياب بعض من كان يقعد إليه، المعنى في ذلك، والله أعلم: إنما فعله لوجه أراد معرفة مقداره من ثوب الرجل، وذلك جائز لا بأس به، فقد استحب مالك أن يقضي الرجل الذهب في المسجد إذا لم يكن على وجه التجارة والصرف، واستحب كتاب ذكر الحق فيه إلا أن يطول.
وقعود عمر بن الخطاب في المسجد مع رجال يحدثهم ويحدثونه كان فيما بين الظهر والعصر، وذلك جائز لا بأس به، إذ ليس ذلك من الأوقات المرغب في الصلاة فيها، فلا وجه لإنكار من أنكر ذلك، وقد مضى هذا قبل هذا في رسم حلف، وبالله تعالى التوفيق.